عشرة أيّام من الرعب في مخيّم جنين | أرشيف

AP Photo - Greg Baker | مخيّم جنين

 

المصدر: «السفير اللبنانيّة».

الكاتب (ة): جانين دي جيوفاني.

ترجمة: إيمان حميدان يونس.

زمن النشر: 26 نيسان (إبريل) 2002.

 


 

تعيش ريم صالح في مخيّم جنين للّاجئين، احتفلت بعيد ميلادها الخامس عشر ثلاثة أيّام قبل دخول الدبّابات الإسرائيليّة إلى مدينة جنين في 3 نيسان (إبريل) 2002. أهداها والدها جمال صالح، بمناسبة عيد ميلادها، قلمًا استعملته ريم لتكتب يوميّات الحرب العنيفة والمرعبة الّتي عاشتها هي وعائلتها خلال أسبوعين كاملين. بعد هذه المأساة أخبرتني ريم أنّها لم تعد تريد أن تصبح معلّمة أو ممرّضة، بل إنّ اليأس الّذي تعيشه يدفعها إلى أن ترغب في القيام بعمليّة استشهاديّة وأن تقوم بمهمّة انتحاريّة. كانت ريم تبكي وهي تخبرني ذلك ثمّ تتابع: "كلّ أصدقائي يريدون الآن أن يقوموا بعمليّة استشهاديّة، ربّما إذا انسحب الإسرائيليّون، سأرغب في القيام بعمل آخر غير الاستشهاد".

انتقلت عائلة صالح إلى مخيّم جنين عام 1948 بعدما اضطرّت للنزوح من منزلها الّذي يقع في منطقة تسمّى الآن إسرائيل. تعيش العائلة الكبيرة في منازل متلاصقة داخل المخيّم. ربّما كانت عائلة صالح أوفر حظًّا من الآخرين خلال الهجوم الأخير على المخيّم، ذلك أنّها خزّنت بعض الطعام والمؤن إلى جانب وجود بئر ماء ارتوازيّة.

عندما دخل 50 جنديًّا إسرائيليًّا إلى المخيّم، قرّروا استعمال بيت جمال صالح كمركز لهم، فاحتجزوا 24 شخصًا وهم أفراد عائلة صالح وأقرباؤهم في غرفة واحدة من البيت. لم تفقد العائلة أيّ فرد منها، إلّا أنّ البيت تعرّض لإصابات عدّة فضلًا عن أنّ سيّارة العائلة عجنتها الدبّابات الإسرائيليّة.

لليال عدّة عاشت ريم وأخواتها الأربعة – أصغرهم لم يتجاوز الثالثة – القصف والنيران وتحليق المروحيّات فوق رؤوسهم. أقفلت المدارس منذ بداية القتال، فلم تر ريم رفاقها ولا تعلم حتّى إذا كانوا أحياءً أم أمواتًا.

في دفتر يوميّاتها قامت ريم، المراهقة الخجولة والرقيقة، بتسجيل ليس أفكارها فحسب، بل أيضًا التقارير الّتي يبثّها الراديو، صلة عائلة صالح الوحيدة بالعالم الخارجيّ.

في ما يلي مقاطع من يوميّات ريم صالح:

 

أنا قتلتهم

 

الأربعاء، 3 نيسان (إبريل) 2002

اليوم الأوّل؛ أسمع أصوات دبّابات وطائرات هيلوكبتر. دخلت القوّات الإسرائيليّة مدينة جنين، بقي مؤذّن الجامع طوال النهار يدعو إلى المقاومة، دعوة لكلّ الفلسطينيّين: «حماس»، «فتح»، و«الجهاد» وإعلان لحالة الاستنفار.

نهار السبت دخلوا المخيّم وهم يتحرّكون ببطء. عزلوا المخيّم وحاصروه. هناك الكثير من الدبّابات، ودار طوال النهار القتال بين المقاومة والجيش الإسرائيليّ المهاجم.

احتُلّت الكثير من المنازل. وتشتّتت العائلات. القنّاصون الإسرائيليّون في كلّ مكان الآن. احتلّوا المنازل وصاروا يقنصون منها. حاولت المقاومة منع الجيش الإسرائيليّ من احتلال المخيّم. سقط 6 فلسطينيّين وإسرائيليّان. هذا ما قاله الراديو الإسرائيليّ. قالت المقاومة «إنّ الجيش الإسرائيليّ لن يأخذ المخيّم إلّا على جثثنا». استعملت المقاومة الآر. بي. جي. للمرّة الأولى ودمّرت 3 دبّابات إسرايليّة. قيادة المقاومة قالت إنّ هناك الكثير من المفاجآت تنتظر الإسرائيليّين.

 

السبت، 6 نيسان (إبريل) 2002: التاسعة والنصف صباحًا

اقتحتمت القوّات الإسرائيليّة منزلنا واحتلّ الجنود الغرف. سمعنا أصواتهم تأتي من خارج المنزل. كسّروا الأثاث وبدوا غاضبين جدًّا. دهنوا وجوههم بمادّة سوداء. بعضهم كان عصبيًّا ومتوتّرًا، واستطعت أن أرى الكره في عيونهم. واحد من الجنود بصق علينا. كان غامق البشرة، ربّما كان يمنيًّا. أخذ بعض الجنود أبي إلى غرفة ليستعملوه كحاجز يحتمون خلفه خلال إطلاقهم النار من المنزل إلى الخارج، وذلك عبر فتحات استحدثوها في جدران منزلنا.

عندما دخل أحد الجنود إلى غرفتنا دفع بكلّ شيء جانبًا بعقب بندقيّته وأوقع أرضًا كلّ الأغراض، حتّى تلك الّتي على الرفوف. تكسّر كلّ شيء. نقل الجنود كلّ أقربائنا وجيراننا الـ 24 شخصًا إلى غرفة في بيت عمّي الملاصق لبيتنا. فتّشوا كلّ غرفة في بيت عمّيّ، كلّ زاوية، نظروا إلى كلّ صورنا، وجدوا بوسترًا لصبيّ استشهد في جنين فبصقوا عليه. حتّى الجرائد مزّقوها ورموها على الأرض. كانوا يسألون: "ما هذه؟ جريدة؟". كان هناك بوستر لـ 24 شهيدًا من جنين بمن فيهم ابنة خالتي ماريا أبو سرية الّتي استشهدت في 28 شباط، وعمرها 10 أعوام. سأل الجنديّ أبي عن البوستر وسأل:" أنا قتلتهم؟ لا بأس، هذا غير مهمّ، ومن الأفضل الآن أن تدلّني على أمكنة بقيّة المقاتلين في جنين؟".

 

من أرشيف «السفير اللبنانيّة» بتاريخ 26 نيسان (إبريل) 2002

 

ما زلت لا أصدّق أنّهم في منزلي. لا أشعر بشيء، فقدت الإحساس بالأشياء كأنّني مخدّرة.

كلّنا رفعنا أيادينا إلى الأعلى عندما اقتحموا المنزل وذلك لكي لا يطلقوا علينا النار. كانت أصوات الانفجارات والكلاشنكوف والإم -16 تلعلع من حولنا طوال النهار. من الجانب الإسرائيليّ تحلّق فوق رؤوسنا طائرات الأباتشي كلّ ساعات النهار. إنّني خائفة. أسمع الدبّابات تقصف. أسمع طائرات إف -16 تحوم فوقنا. إخوتي وأولاد عمّي الصغار مختبئون. عندما ننظر من النوافذ نرى الدبّابات وناقلات الجند والبلدوزرات وهي تجرف المنازل. نرى الكثير من الناس يخرجون من منازلهم وهم يرفعون أيديهم.

 

الأحد، 7 نيسان (إبريل) 2002

أصيب جنديّ إسرائيليّ في منزلنا إصابة بالغة. رأيت الدم يغطّي وجهه وهو يصرخ. وضع رفاقه الضمّادّات على وجهه وذراعيه، ومن ثمّ علّقوا له المصل في ذراعه. بعد حين أخذ يزعق طالبًا أمّه.

إنّني خائفة من أن يثأروا. هم يصرخون علينا بالعبريّة ويأمروننا بعدم الاقتراب من النافذة. أحد الجنود كان غاضبًا جدًّا وراح يضرب رأسه بالحائط. طائرات الأباتشي تقصف المخيّم طيلة النهار والجنود الإسرائيليّون يقولون لنا: "لن نترك هذا المكان إلّا بعد استسلام كلّ المسلّحين". المقاومة الفلسطينيّة لا تتوقّف عن القول: "لن نستسلم".

يتابع مؤذّن الجامع طيلة النهار الدعوة إلى المقاومة، بقي يعمل وحده في المخيّم، ليدعوا الآخرين إلى المقاومة.

 

صامتون رغمًا عنّا

 

الإثنين، 8 نيسان (إبريل) 2002

التقارير الإسرائيليّة قالت اليوم إنّ جنديّين قُتِلا وجُرِحَ خمسة جنود. سمعت أيضًا أنّ خمسين فلسطينيًّا استُشهِدوا.

المصادر الفلسطينيّة مختلفة. يقولون هناك مئات القتلى الفلسطينيّين. الراديو أيضًا يقول إنّ مذبحة حصلت هنا في المخيّم والعالم لا يعرف عنها شيئًا. ما زالت طائرات الأباتشي تقصف والبيوت تحترق. لا أحد يعلم كم من الفلسطينيّين قُتِلوا داخل منازلهم اليوم. هناك معارك أيضًا في نابلس، حيث يعيش خالي وخالتي، وفي العراق قرّروا التوقّف عن بيع البترول.

جيراننا عائلة الغول يقطنون في الجهة المقابلة من الطريق. أرسلوا أطفالهم إلى منزلنا لأنّه أكثر أمانًا، أمّا الأهل فبقوا في منزلهم. تعرّض منزلهم للقصف وانتقلوا إلى الطابق الأرضيّ، لكنّه سرعان ما تعرّض للقصف أيضًا ولم يعد من حلّ سوى الخروج من المنزل. لكنّهم لا يريدون الخروج إلى الشارع خوفًا من القصف والقنص. لذا قام الوالدان بكسر زجاج النافذة وخرجا زحفًا إلى منزل قريب.

الآن أصبح لدى عائلة الغول نصف منزل فقط. سمع كلّ الأطفال الصاروخ الّذي سقط وانفجر وخافوا. عندما تقترب الأباتشي وتبدأ القصف يضع الأطفال أيديهم على آذانهم. يقول لهم الجنود الإسرائيليّون أن لا يخافوا: "يعرف الجيش في الخارج أنّنا هنا، فلن يقصفوا عليكم"، يطمئنهم أحد الجنود.

يسمع أحد الجنود رنين التلفون: "أين هو؟"، يسأل، لكنّ والدي يجيب أنّه لا يوجد تليفون هنا، يتجادلان ويضرب الجنديّ أبي على رأسه ويشتمه. في النهاية يعلم أنّ هذا ليس رنين التلفون بل صوت صادر من ساعة أبي يشبه رنين التلفون.

 

الثلاثاء، 9 نيسان (إبريل) 2002

أشاهد جنودًا إسرائيليّون يهدمون منزلًا بواسطة البلدوزر. أشاهد فلسطينيّين يخرجون من المنزل وأياديهم مرفوعة، أراهم فقط من الخلف وأستطيع أن أرى وجوههم. تدقّ باب منزلنا جارة حامل اسمها هيام. تشعر بألم وهي خائفة. يصرخ الجنود بها أن ترحل ويمنعونها من الدخول. تقول لهم أن لا مكان لديها تذهب إليه. تخرج ثانية إلى الشارع مع ابنتها الصغيرة الّتي ترفع بيدقًا عاليًا ملوّحة بفوطة بيضاء كأنّها علم. لكنّهم يطلقون النار عليهما بأيّ حال.

لم تصب هيام بأذى. لكنّها ارتعدت. عندما عادت إلى بيتها لم تجد زوجها. اعتقله الجيش الإسرائيليّ وأخذه، أمّا أطفالها الآخرون فأخذهم أحد الجيران للاهتمام بهم.

 

الأربعاء، 10 نيسان (إبريل) 2002

يبثّ الراديو خبرًا عن عمليّة استشهاديّة على باص في حيفا، الانتحاريّ من جنين.

 

الخميس، 11 نيسان (إبريل) 2002

أسمع الراديو يقول إنّ الإسرائيليّين دمّروا 10 بيوت. هناك مقاتلون داخل هذه البيوت. في داخل بيتنا نباشر تلاوة القرآن، لا نستطيع غسل ملابسنا، لذلك نرتدي نفس الملابس كلّ يوم. لا أستطيع غسل شعري، يجب على الأطفال التزام الهدوء وإلّا صرخ بهم الجنود. يجب عليهم البقاء صامتين لساعات عديدة، 8 أو 9 ساعات متواصلة.

 

الجمعة، 12 نيسان (إبريل) 2002

عمليّة انتحاريّة جديدة في القدس. الأمر نفسه كلّ يوم. نستطيع التحرّك داخل المنزل لكن كلّ واحد بمفرده ومتى سَمَحَ الجنود بذلك. نتحرّك من الغرفة حيث نحن إلى المطبخ والحمّام. يطلبون منّا عدم الاقتراب من النوافذ. أسمع في الأخبار عن مقتل 13 جنديًّا إسرائيليًّا في مخيّم جنين. لا أعلم أين، لأنّ الانفجارات متواصلة كلّ النهار. يغضب الجنود بشدّة وأحدهم يقول لأبي: "الآن لن نرحل إلّا بعد موت كلّ عربيّ".

قبل هذه الحرب كنت أذهب إلى المدرسة. توقّفت صفوفي في 29 آذار (مارس) 2002، لم أعد أرى صديقاتي. أعلم فقط أنّ شقيق صديقتي آمال قُتِلْ، كان عمره 20 عامًا ولم يكن مقاتلًا.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.